كل مسئول في مصر.. وزيرا كان أو رئيسا للجمهورية أو شيخا للأزهر أو مفتيا للديار المصرية يتعرض لما يسمي بـ الهدايا البروتوكولية التي قد تكون أوسمة أو نياشين أو مجوهرات أوساعات من أغلي الماركات,
أومقتنيات نادرة وتحفا فنية, قبولها ليس رشوة ولا عيبا بل بالعكس واجب تقتضيه الأعراف الدولية, ولكن هذا القبول لا يضفي علي الهدية أبدا صفة الملكية الشخصية له, فالحقيقة أنها مهداة إليه بصفته( الوظيفية) لا( الشخصية) ولو لم يكن مسئولا لما وصلته الهدية...
هذا المبدأ يتعامل معه الغرب بمنتهي الشفافية أما في مصر فقد كشفت الأحداث أن كثيرا من المسئولين اعتبروا ما تسلموه في مهماتهم وأسفارهم ومقابلاتهم الرسمية حقا خالصا لهم وبالتالي عندما رحلوا عن مناصبهم رحلت معهم هدايا وثروات ملك للوطن.
تقريبا لم تكن قضية الهدايا التي يتلقاها كبار المسئولين في الدولة وعلي رأسهم الرئيس السابق مبارك موضع اهتمام أو مثار جدل إما بسبب عدم الإعلان عن تفاصيل وقيمة هذه الهدايا أو بسبب الخوف من عاقبة النبش في هذا الملف إلي أن ظهر الدور الكبير للهدايا كرافد مهم من روافد ثرواتهم,عند فحص الثروات المالية المتضخمة بالمقارنة بدخولهم, خاصة مع إقرار البعض منهم بتلقيه هدايا كأمر بروتوكولي عادي,الأمرالذي جعل الكثير من القانونيين يحذرون من احتمالات أن يفلت كبار المسئولين من العقاب في قضايا الكسب غير المشروع, لعدم اشتمال قانون الكسب علي نص يتعلق بتنظيم حصول كبار المسئولين علي الهدايا رغم كونها نوعا من الاستغلال للمنصب الرسمي,إذا ماتم الإستفادة منها.
قانون الإدارة المحلية
وإذا كان قانون الكسب غير المشروع قد أغفل خطورة إستيلاء المسئول علي الهدايا التي يتلقاها بصفته لا بشخصه إلا أن هناك قانونا آخر لم يتجاهل هذه النقطة الخطيرة, وكما يوضح الدكتور سمير صبري المحامي بالنقض نص المادة رقم13 من قانون الإدارة المحلية كالآتي( يلتزم كل من الرؤساء والوزراء وكافة العاملين بقطاعات الدولة بتسليم جميع الهدايا التي يتحصلون عليها بصفتهم الوظيفية وفي حالة الإخلال بذلك توقع عليهم العقوبة المنصوص عليها بالمادة رقم63 وهي الحبس والإلتزام برد ما تحصلوا عليه أو رد قيمته ومثله غرامة)
ولكن المشكلة أن هذا القانون ـ حسب كلام محدثنا ـ لم يشهد أي تطبيق له في مصر, وكان مصيره التجميد مثل غيره من قوانين محاسبة الوزراء أو رئيس الجمهورية عن أي أموال أوممتلكات غير مشروعة
ويضيف: رغم أن المادة رقم3 مكرر من قانون الإدارة المحلية تؤكد علي ضرورة الإلتزام برد الهدية فور عودة المسئول إلا أن هذا لم يكن يحدث لا فور العودة ولا بعدها بثلاثين عاما!!
بل إن زوجات وأبناء المسئولين يتلقون الهدايا كذلك رغم أنه ليس لهم صفة وظيفية, ويكون سبب حصولهم علي الهدايا هو الصلة الشخصية التي تربطهم بالمسئول كأن تكون الهدية لزوجته أو أبنائه وعادة تكون عقدا من الألماس أو ساعة يد من الماركات العالمية الشهيرة التي يتجاوز سعره الواحدة منها ربع مليون جنيه, وإن كان ذلك لا يمنع وجود إستثناءات ـ وكما ذكرالدكتور حسام عيسي أستاذ القانون ــ واقعة للرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي تلقي هدية بقيمة3 ملايين دولار من أمريكا فقام بإنفاقها علي بناء برج القاهرة.
سجلات لمنع السرقات
ولكن كيف يتم إثبات الهدايا التي يتلقاها المسئول الذي يكون عادة في مهمة خارج البلاد أو مقابلة مع رئيس دولة أخري؟
أجابنا الدكتور رمضان بطيخ أستاذ القانون بجامعة عين شمس قائلا: من المفترض وجود سجل خاص بالهدايا سواء التي يتلقاها المسئول أو التي يهديها إلي مسئول آخر لأن هذا نوع من البروتوكول المتعارف عليه دوليا, هذه السجلات يتم فيها وبكل دقة تدوين أي هدايا ونوعها وقيمتها المادية أو التاريخية, والمناسبة الخاصة بها وتاريخ الإهداء, ويتم الإحتفاظ بهذه السجلات في مقر الرئاسة أو الوزارة, علي أن تتم مراجعتها عند مغادرة المسئول عمله أو رحيله عن منصبه وإجراء عملية جرد لمطابقة المكتوب بالموجود,والمثير للجدل أيضا أن الدستور ينص علي أن كل هدايا الرئيس تنشر في الجريدة الرسمية, وتوضع في المتحف الرئاسي, غير أننا لم نقرأ يوما عن أي هدية في الجريدة الرسمية, أو عرفنا ماذا يضم المتحف الرئاسي؟
وينتقد الدكتور رمضان بطيخ ظاهرة الإسراف في هدايا البروتوكلات في المجتمعات العربية بشكل عام ودول الخليج بشكل خاص والتي يدخل فيها الذهب والمجوهرات حتي في النماذج والتماثيل والسيوف المرصعة بالأحجار الكريمة, علي حين نلاحظ بساطة الهدية في دول الغرب والأغلب أن تكون لها دلالة وإرتباط بالدولة كالعلم الخاص بها أو أشهر معالمها
التشريع الإسلامي أسبق
هدايا الرؤساء مقننة في جميع دول العالم حيث يجبر القانون الفرنسي الرئيس علي أن يسلم جميع الهدايا التي يحصل عليها بصفته رئيس جمهورية من الداخل والخارج الي قصر الاليزيه في حين, يلزم القانون الامريكي الرئيس الامريكي بأن يقوم بتسليم كل هدية غير رمزيةالي البيت الابيض, فالقانون الأمريكي يحظر علي الموظف العام أن يقبل هدية تزيد قيمتها علي30 دولارا ـ اي لاتتعدي تمثال مكتب صغير لتوت عنخ آمون تقليد ـ صناعة صينية. وذلك حتي لا يشتري احد ذمة المسئولين بهدية ما ويكون بابا من ابواب الفساد.
وتكون مخالفة ذلك أمرا خطيرا يستوجب المساءلة كما حدث مع توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الاسبق الذي واجه لوما حادا في البرلمان البريطاني بسبب منحه تذكرة طيران مجانية من إحدي الشركات, أما في مصر فكانت هدايا الرئاسة صورة فجة من صور الفساد,
وكان الأولي بمصر وهي دولة تستمد أحكامها من الشريعة الإسلامية أن تستند إلي أول قانون عرفته البشرية لمنع المسئولين من إستحلال ما يهدي لهم بحكم عملهم وكانت حجة النبي صلي الله عليه وسلم قوية وهو يرد علي رجل يدعي ابن اللتبية أرسله لتحصيل صدقات بني سليم, فجاءه يقول: هذا مالكم وهذا أهدي إلي, فلم يناقشه النبي وإنمافقط قال له( فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتي تأتيك هديتك والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة)
الموجود والمفقود في القصور
مكان الاحتفاظ بالهدايا والتحف النادرة يجب أن يكون وفقا للمفترض في خزائن القصور والمقار الرئاسية وبما يتناسب مع حصاد ثلاثين عاما من تلقي الهدايا من رؤساء دول ورحلات للخارج وإستقبالات, ولكن يبدو وفقا للأمر الواقع ولبعض المعلومات التي كانت نتاج فحص مبدئي لهذه القصور أننا لن نجد سوي القليل من الهدايا الرمزية كالنياشين والأوسمة, وكميات من علب الهدايا الفارغة, ولكن يتبقي التقرير التفصيلي الدقيق للجنة الجرد الجديدة التي قرر وزير العدل تشكيلها وبدأت بالفعل عملها في42 قصرا وهي تضم ممثلين عن القضاء والنيابة العامة والأمن القومي والكسب غير المشروع والشرطة العسكرية والمباحث العامة. وممثلين لوزارة الثقافة ووزارة الآثار والمجلس العسكري وسيكون لها الرأي النهائي عن حقيقة الموجود والمفقود في الخزائن, ولكن ستكون مهمة اللجنة صعبة إذا ماتبين ـ كما أشيع سلفا ـ اختفاء الدفاتر الخاصة بتسجيل و تدوين الهدايا التي تلقاها الرئيس السابق وأسرته